فصل: الآية رقم ‏(‏14‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة الصف

روى الترمذي، عن عبد اللّه بن سلام قال‏:‏ قعدنا نفراً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا‏:‏ لو نعلم أي الأعمال أحب إلى اللّه عزَّ وجلَّ لعملناه، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏سبّح للّه ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم * يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏ قال عبد اللّه بن سلام‏:‏ فقرأها علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏أخرجه الترمذي والإمام أحمد‏"‏‏.‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 4‏)‏

‏{‏ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ‏.‏ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ‏.‏ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ‏.‏ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ‏}‏

قد تقدم الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبح للّه ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم‏}‏ غير مرة بما أغنى عن إعادته، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏ إنكاراً على من يعد وعداً، أو يقول قولاً لا يفي به، وفي الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏آية المنافق ثلاث‏:‏ إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان‏)‏، ولهذا أكد اللّه تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏كبر مقتاً عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون‏}‏ نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية اللّه أو أشد خشية‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت‏}‏ الآية، وهكذا هذه الآية كما قال ابن عباس‏:‏ كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون‏:‏ لوددنا أن اللّه عزَّ وجلَّ دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر اللّه نبيّه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا بالإيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنينن وشق عليهم أمره، فقال اللّه سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏ وهذا اختيار ابن جرير وقال مقاتل بن حيان‏:‏ قال المؤمنون لو نعلم أحب الأعمال إلى اللّه لعملنا به، فدلهم اللّه على أحب الأعمال إليه فقال‏:‏ ‏{‏إن اللّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً‏}‏ فبين لهم، فابتلوا يوم أُحُد بذلك فولوا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مدبرين، فأنزل اللّه في ذلك‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏، وقال قتادة والضحّاك‏:‏ نزلت توبيخاً لقوم كانوا يقولون‏:‏ قتلنا، ضربنا، طعنا، وفعلنا؛ ولم يكونوا فعلوا ذلك‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ نزلت في قوم من المنافقين كانوا يعدون المسلمين النصر ولا يفون لهم بذلك، وقال مجاهد‏:‏ نزلت في نفر من الأنصار فيهم عبد اللّه بن رواحة قالوا في مجلس‏:‏ لو نعلم أي الأعمال أحب إلى اللّه لعملنا به حتى نموت‏؟‏ فأنزل اللّه تعالى هذا فيهم، فقال عبد اللّه بن رواحة‏:‏ لا أبرح حبيساً في سبيل اللّه أموت فقتل شهيداً‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص‏}‏ فهذا إخبار

من اللّه تعالى بمحبته عباده المؤمنين، إذا صفوا مواجهين لأعداء اللّه في حومة الوغى، يقاتلون في سبيل اللّه من كفر باللّه، لتكون كلمة اللّه هي العليا، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان، عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاثة يضحك اللّه إليهم‏:‏ الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا للقتال‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن ماجه والإمام أحمد‏"‏‏.‏ وقال مطرف‏:‏ كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت‏:‏ يا أبا ذر كان يبلغني عنك حديث فكنت أشتهي لقاءك، فقال‏:‏ للّه أبوك، فقد لقيت فهات، فقلت‏:‏ كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حدثكم أن اللّه يبغض ثلاثة ويحب ثلاثة، قال‏:‏ أجل فلا أخالني أكذب على خليلي صلى اللّه عليه وسلم، قلت‏:‏ فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم اللّه عزَّ وجلَّ‏؟‏ قال‏:‏ رجل غزا في سبيل اللّه خرج محتسباً مجاهداً، فلقي العدو فقتل، وأنتم تجدونه في كتاب اللّه المنزل، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏إن اللّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الترمذي والنسائي بنحوه‏"‏وذكر الحديث‏.‏ وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً‏}‏ قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم، وهذا تعليم من اللّه للمؤمنين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كأنهم بنيان مرصوص‏}‏ أي ملتصق بعضه في بعض، من الصف في القتال، وقال مقاتل بن حيان‏:‏ ملتصق بعضه إلى بعض، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏كأنهم بنيان مرصوص‏}‏ مثبت لا يزول ملصق بعضه ببعض، وقال ابن جرير، عن يحيى بن جابر الطائي، عن أبي بحرية قال‏:‏ كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبون القتال على الأرض لقول اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏إن اللّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص‏}‏ قال، وكان أبو بحرية يقول‏:‏ إذا رأيتموني التفت في الصف فجأوا فجأوا‏:‏ أي اضربوا من‏:‏ وجأ عنقه أو في عنقه ضربه في لحيي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏5 ‏:‏ 6‏)‏

‏{‏ وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ‏.‏ وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام أنه قال لقومه‏:‏

‏{‏لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول اللّه إليكم‏}‏، أي لم توصلون الأذى إليَّ وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة‏؟‏ وفي هذا تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما أصابه من الكفّار‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم‏}‏ أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ اللّه قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونذرهم في طيغانهم يعمهون‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً‏}‏، ولهذا قال تعالى في هذه الآية‏:‏ ‏{‏واللّه لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول اللّه إليكم مصدقاً لما بين يديَّ من التوراة ومبشراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد‏}‏ يعني التوراة، وقد بشرت بي وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأما مبشر بمن بعدي وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشراً بمحمد وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة‏.‏ وما أحسن ما أورد البخاري، عن جبير بن مطعم قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو اللّه به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري ورواه مسلم بنحوه‏"‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ما بعث اللّه نبياً إلا أخذ عليه العهد، لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أُمّته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنهم قالوا‏:‏ يا رسول اللّه أخبرنا عن نفسك، قال‏:‏ ‏(‏دعوة أبي إبراهيم، وبًشْرى عيسى، ورأت أُمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام‏)‏ ‏"‏رواه ابن إسحاق، قال ابن كثير‏:‏ إسناده جيد وله شواهد من وجوه أخر‏"‏‏.‏ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني عند اللّه لخاتم النبين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرى عيسى، ورؤيا أُمّي التي رأت وكذلك أُمَّهات النبيين يرين‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد عن العرباض بن سارية مرفوعاً‏"‏‏.‏ وروى أحمد عن أبي أمامة قال، قلت‏:‏ يا رسول اللّه ما كان بدء أمرك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أُمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد‏"‏‏.‏ وقال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ بعثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحوٌ من ثمانين رجلاً، منهم عبد اللّه بن مسعود و جعفر و عبد اللّه بن رواحة و عثمان بن مظعون و أبو موسى فأتوا النجاشي، وبعثت قريش عمرو بن العاص و عمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له‏:‏ إن نفراً من بني عمنّا نزلوا أرضك ورغبوا عنا، وعن ملتنا، قال‏:‏ فأين هم‏؟‏ قالا‏:‏ هم في أرضك فابعث إليهم، فبعث إليهم، قال جعفر‏:‏ أنا خطيبكم اليوم، فاتبعوه، فسلّم ولم يسجد، فقالوا له‏:‏ مالك لا تسجد للملك‏؟‏ قال‏:‏ إنا لا نسجد إلا للّه عزَّ وجلَّ، قال‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ إن اللّه بعث إلينا رسوله، فأمرنا أن لا نسجد لأحد إلا اللّه عزَّ وجلَّ، وأمرنا بالصلاة والزكاة، قال عمرو بن العاص‏:‏ فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم، قال‏:‏ ما تقولون في عيسى ابن مريم وأُمّه‏؟‏ قال‏:‏ نقول كما قال اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ هو كلمة اللّه، وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر، ولم يعترضها ولد، قال، فرفع عوداً من الأرض، ثم قال‏:‏ يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، واللّه ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يساوي هذا، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول اللّه وأنه الذي نجده في الإنجيل، وأنه الذي بَشّر به عيسى ابن مريم، انزلوا حيث شئتم، واللّه لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه، وأوضئه، وأمر بهدية الآخرين فرُدَّتْ إليهما ‏"‏رواه أحمد وأصحاب السير‏"‏‏.‏ والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أُممها، وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بُعث، وكان أول ما اشتهر الأمر في أهل الأرض، على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده، حين دعا لأهل مكّة أن يبعث اللّه فيهم رسولاً منهم، وكذا على لسان عيسى بن مريم، ولهذا قال‏:‏ ‏(‏دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بن مريم، ورؤيا أُمي التي رأت‏)‏ أي ظهر في أهل مكة أثر ذلك، والإرهاص، فذكره صلوات اللّه وسلامه عليه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين‏}‏ قال ابن جريج، ‏{‏فلما جاءهم‏}‏ أحمد أي المبشر به في الأعصار المتقادمة المنوه بذكره في القرون السالفة، لما ظهر أمره وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون ‏{‏هذا سحر مبين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏7 ‏:‏ 9‏)‏

‏{‏ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين ‏.‏ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ‏.‏ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن افترى على اللّه الكذب وهو يدعى إلى الإسلام‏}‏، أي لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على اللّه، ويجعل له أنداداً وشركاء وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه لا يهدي القوم الظالمين‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يريدون ليطفئوا نور اللّه بأفواههم‏}‏ أي يحاولون أن يردوا الحق بالباطل، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه متم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون‏}‏، وقد تقدم الكلام على هاتين الآيتين في سورة براءة بما فيه كفاية، وللّه الحمد والمنة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏10 ‏:‏ 13‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ‏.‏ يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم ‏.‏وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين ‏}‏

فسَّر اللّه تعالى هذه التجارة العظيمة التي لا تبور، التي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال تعالى‏:‏ ‏{‏تؤمنون باللّه ورسوله وتجاهدون في سبيل اللّه بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏، أي من تجارة الدنيا والكد لها والتصدي لها وحدها، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يغفر لكم ذنوبكم‏}‏ أي إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه، غفرت لكم الزلات، وأدخلتكم الجنات، والمساكن الطيبات، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأُخْرَى تحبونها‏}‏ أي وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها، وهي ‏{‏نصر من اللّه وفتح قريب‏}‏ أي إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه، تكفل اللّه بنصركم، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إن تنصروا اللّه ينصركم ويثبت أقدامكم‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولينصرن اللّه من ينصره إن اللّه لقوي عزيز‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفتح قريب‏}‏ أي عاجل، فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة، لمن أطاع اللّه ورسوله، ونصر اللّه ودينه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏14‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ‏}‏

يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين، أن يكونوا أنصار اللّه في جميع أحوالهم، بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم، وأن يستجيبوا للّه ولرسوله كما استجاب الحواريون لعيسى، حين قال‏:‏ ‏{‏من أنصاري إلى اللّه‏}‏ أي من معيني في الدعوة إلى اللّه عزَّ وجلَّ، ‏{‏قال الحواريون‏}‏ وهم أتباع عيسى عليه السلام ‏{‏نحن أنصار اللّه‏}‏ أي نحن أنصارك على ما أرسلت به، وموازروك على ذلك، وهكذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في أيام الحج‏:‏ ‏(‏من رجل يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي‏)‏ حتى قيض اللّه عزَّ وجلَّ له الأوس والخزرج من أهل المدينة، فبايعوه ووازروه وشارطوه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم، فلما هاجر إليهم بمن معه من أصحابه، وفوا له بما عاهدوا اللّه عليه، ولهذا سماهم اللّه ورسوله الأنصار وصار ذلك علماً عليهم رضي اللّه عنهم وأرضاهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة‏}‏ أي لما بلغ عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام رسالة ربه إلى قومه، ووازره من وازره من الحواريين، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به وضلت طائفة، فخرجت عما جاءهم به، وجحدوا نبوته ورموه وأمه بالعظائم، وهم اليهود عليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة، وغلت فيه طائفة ممن اتبعه حتى رفعوه فوق ما أعطاه اللّه من النبوة وافترقوا فرقاً وشيعاً، فمن قائل منهم ‏:‏ إنه ابن اللّه، وقائل‏:‏ إنه ثالت ثلاثة الأب والابن والروح القدس ومن قائل‏:‏ إنه اللّه، وكل هذه الأقوال مفصلة في سورة النساء‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم‏}‏ أي نصرناهم على من عاداهم من فرق النصارى ‏{‏فأصبحوا ظاهرين‏}‏ أي عليهم وذلك ببعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة‏}‏ يعني الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى، والطائفة التي آمنت في زمن عيسى ‏{‏فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين‏}‏ بإظهار محمد صلى اللّه عليه وسلم دينهم على دين الكفار، فأُمّة محمد صلى اللّه عليه وسلم لا يزالون ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر اللّه وهم كذلك، وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح عيسى بن مريم عليه السلام كما وردت بذلك الأحاديث الصحاح، واللّه أعلم‏.‏